يُعد الأمن القومي متطلباً لصيقاً بوجود الدول في الساحة الدولية، إذ لا توجَد ضمانات موثوق بها لبقاء أي دولة، أو لصيانة مصالحها، غير تلك التي تتمكن الدولة من صياغتها بنفسها، سواء بالاعتماد على قدراتها الذاتية -إذا كانت تملك عوامل القوة اللازمة لذلك-، أو بالدخول في روابط مؤسسية مع دول أخرى، بهدف زيادة أسباب أمنها الجماعي تجاه مصادر التهديد المشتركة. وعندما تفشل دولة ما في تدعيم أولويات أمنها القومي تتحوَّل تلقائيّاً هدفاً سائغًا لأطماع القوى الدولية الأخرى، التي ستبادر إلى تهديد سيادة ومصالح الدول التي يعاني أمنها القومي الوهَن والانكشاف.
وقد يبدو هذا الوصف للحياة في الساحة الدولية قاسياً، ولكنه في واقع الأمر يجسد طبيعة علاقات القوة، وممارسات النفوذ بين الدول على النحو الصحيح. وتجعل الحسابات العقلانية، التي قد تكون ضيقة وأنانية ولكنها أساسية وحتمية، بقاء الدولة وحماية مصالحها السيادية الهدف الأول بالنسبة إلى الحكومة. وينطبق هذا الوصف لواقع العلاقات بين الدول في الزمن الحاضر، تماماً كما كان منطبقاً في الماضي، وسيستمر نافذاً في المستقبل أيضاً.
وعند الالتفات إلى الوطن العربي، والنظر إلى أداء ترتيبات الأمن الاستراتيجي والسياسي والعسكري للدول العربية، يمكننا أن نميز بين ثلاثة نطاقات للأمن القومي العربي، أولها يشمل جميع الدول العربية، ويتمثل في الأمن القومي الإقليمي العربي. ويُعد هذا النطاق مرغوباً فيه لأنه مثالي، فهو يستجيب للمصالح الوجودية التي تشمل الدول العربية قاطبةً، ويجسد الوشائج الوجدانية والجغرافية والتاريخية والدينية والثقافية التي تربط بين الشعوب العربية. وإذا وُجِد هذا النطاق يراكِم الأمن القومي العربي الشامل مقدرات القوة المادية والمعنوية لدى جميع دول الوطن العربي، ويحولها نفوذاً ضخماً يمكن أن تستخدمه منظومة الأمن الجماعي العربي لممارسة علاقات الردع والإكراه تجاه الخصوم والأعداء، وضمان سيادة الدول العربية، وحماية مصالحها الوطنية. ويبقى الأمن القومي العربي الشامل مجرد احتمال كامن، ولكنه غير متحقق في الوقت الحاضر، كما يتضح عند تشخيص الحالة الأمنية الراهنة في كثير من الملفات المتفاقمة في مناطق عدَّة من العالم العربي.
أما النطاق الثاني -وهو الأوسط لاحتوائه على مجموعة من الدول العربية المتجاورة-، فيتمثل في الأمن القومي العربي الفرعي، ويُصنَّف العالم العربي -وفقًا له- في مجموعة من النظم الإقليمية الفرعية التي تتوزع في قارتي آسيا وأفريقيا، مثل دول شبه الجزيرة العربية، والخليج العربي، وبلاد الشام، والمغرب العربي. وبالنظر إلى الأقاليم العربية الفرعية يمكننا أن نجد إخفاقات متفاوتة ومركبة في تحقيق متطلبات الأمن القومي العربي، إذ تتضح حالات اختلال بناء الدولة، واضطراب اليقين السياسي، واشتداد التدخلات الأجنبية، وانتشار التنظيمات الإرهابية، واستمرار الخلافات البينية، وتمادي قوى العنف غير الحكومية، وغيرها من مؤشرات العوَز الأمني الفادح التي تشِي بمزيد من التدهور، وتهدد فرص بقاء الدول العربية المتأثرة.
وفي الحد الأدنى يأتي النطاق الثالث، الذي يقتصر على كل دولة بصورة منفردة، وهو الأمن القومي العربي للدولة الوطنية الواحدة، فبعد أن تتبدَّد فرص الاستفادة من الإمكانيات الأمنية التي توفرها منظومة الأمن القومي العربي، لعدم وجود هذه المنظومة المتكاملة أساساً، أو فقدان دول عدَّة الأمل في الاعتماد على ترتيبات الأمن القومي العربي الفرعي، أو اعتلال مقومات الأمن الجماعي في النظم الإقليمية الفرعية، لا يبقى أمام معظم الدول سوى خيار الانكفاء على ذاتها، والاعتناء بأمنها القومي الوطني الفردي. وفي الوقت الذي يُعد فيه هذا المستوى الضيق من الأمن القومي العربي متاحاً في حال سلامة معطيات السيادة لدى الدولة، فإنه غير مجدٍ في أغلب الأحيان بالنسبة إلى معظم الدول العربية، نظراً إلى محدودية عناصر القوة الوطنية المتوافرة لديها.
وإذا كان المقصود من تحقيق الأمن القومي العربي الاستراتيجي، والسياسي، والعسكري، هو حماية وجود الدولة الوطنية العربية، وصون سيادتها، وحماية سلامتها الإقليمية، فإنه لا يمكن أن تستقيم ترتيبات الأمن القومي بالنسبة إلى أي دولة عربية بمعزل عن التعاون مع الدول العربية المجاورة لها في الإقليم الفرعي، ولا يمكن أن تستتبَّ أسس الأمن القومي لأي دولة عربية على نحو مستدام بمعزل عن التكاتف مع الدول الأخرى في أرجاء الوطن العربي الكبير ضمن منظومة الأمن القومي العربي، بيد أن الدول العربية صارت تدرك أن المزيد من الدول العربية الأخرى لم تعُد مؤهلة أو مرشحة للدخول في ترتيبات أمنية موثوق بها، سواء على المستوى الإقليمي الفرعي، أو المستوى العربي الشامل.
ولا يتوافق أداء الدول العربية مع المقتضيات الأمنية والسلوكيات العقلانية التي تفرضها الحياة في الساحة الدولية، كما أن الأمن القومي العربي تائه وغير فاعل في أفضل تقدير، وهو تالف وغير حاضر في أسوأ تقييم. ويجب أن تستند جهود ترميم الأمن القومي العربي وتعزيزه واستدامته إلى تحقُّق متطلبات محددة تفرضها نظريات الأمن القومي الجماعي، تشمل ضرورة اتفاق أكبر عدد ممكن من الدول العربية على تحديد مصادر التهديد ذات الأولوية، والنجاح في بناء الروابط الأمنية المؤسسية بينها للتعامل مع مصادر التهديد الخارجية، فضلًا عن امتلاك منظومة الأمن القومي العربي مصادر القوة اللازمة لممارسة علاقات النفوذ تجاه الخصوم والأعداء، لدرء المخاطر، وفرض الأمن، وضمان اشتراطات التماسك والصدقية والالتزام ضمن ترتيبات الأمن الجماعي بين الدول العربية من أجل التعامل مع الأزمات والمخاطر الأمنية القائمة والمحتمَلة.
* وكيل كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية في جامعة الإمارات العربية المتحدة